فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وحكى أبو مُصْعَب في «مختصره» عن مالك وأهل المدينة قال: القصر في السفر للرجال والنساء سنة.
قال أبو عمر: وحسبك بهذا في مذهب مالك، مع أنه لم يختلف قوله: أنّ من أتمّ في السفر يعيد ما دام في الوقت؛ وذلك استحباب عند مَن فَهِم، لا إيجاب.
وقال الشافعيّ: القصر في غير الخوف بالسُّنّة، وأما في الخوف مع السفر فبالقرآن والسنَّة؛ ومن صلَّى أربعًا فلا شيء عليه، ولا أحب لأحد أن يتم في السفر رغبة عن السنة.
وقال أبو بكر الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل للرجل أن يصلي في السفر أربعًا؟ قال: لا، ما يعجبني، السنة ركعتان.
وفي موطأ مالك عن ابن شِهاب عن رجل من آل خالد بن أسِيد، أنه سأل عبد الله بن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن إنا نجد صلاة الخوف وصلاة الحضر في القرآن ولا نجد صلاة السفر؟ فقال عبد الله بن عمر: يا ابن أخي إن الله تبارك وتعالى بعث إلينا محمدًا صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئًا، فإنا نفعل كما رأيناه يفعل ففي هذا الخبر قصرُ الصلاة في السفر من غير خوف سُنّةٌ لا فريضة؛ لأنها لا ذِكر لها في القرآن، وإنما القصر المذكور في القرآن إذا كان سفرًا وخوفًا واجتمعا؛ فلم يُبح القصرَ في كتابه إلا مع هذين الشرطين.
ومثله في القرآن: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ} [النساء: 25] الآية، وقد تقدّم.
ثم قال تعالى: {فَإذَا اطمأننتم فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ} [النساء: 103] أي فأتمّوها؛ وقصر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أربع إلى اثنتين إلا المغرب في أسفاره كلها آمنا لا يخاف إلا الله تعالى؛ فكان ذلك سُنّة مسنونةً منه صلى الله عليه وسلم، زيادة في أحكام الله تعالى كسائر ما سنّه وبيّنه، مما ليس له في القرآن ذكر.
وقوله: «كما رأيناه يفعل» مع حديث عمر حيث سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القصر في السفر من غير خوف؛ فقال: «تلك صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» يدل على أن الله تعالى قد يبيح الشيء في كتابه بشرط ثم يبيح ذلك الشيءَ على لسان نبيه من غير ذلك الشرط.
وسأل حنظلةُ ابن عمر عن صلاة السفر فقال: ركعتان.
قلت: فأين قوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا} ونحن آمنون؟ قال: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذا ابن عمر قد أطلق عليها سُنّة؛ وكذلك قال ابن عباس.
فأين المذهب عنهما؟.
قال أبو عمر: ولم يُقم مالك إسناد هذا الحديث؛ لأنه لم يُسَمّ الرجل الذي سأل ابن عمر، وأسقط من الإسناد رجلًا، والرجل الذي لم يسمه هو أُمَيّة بن عبد الله بن خالد بن أسِيد بن أبي العِيص بن أُمية بن عبد شمس بن عبد مناف، والله أعلم. اهـ.

.قال الفخر:

قال بعضهم: صلاة السفر ركعتان، تمام غير قصر، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر.
واعلم أن لفظ الآية يبطل هذا، وذلك لأنا بينا أن المراد من القصر المذكور في الآية تخفيف الركعات، ولو كان الأمر ما ذكروه لما كان هذا قصرًا في صلاة السفر، بل كان ذلك زيادة في صلاة الحضر، والله أعلم. اهـ.
قال الفخر:
زعم داود وأهل الظاهر أن قليل السفر وكثيره سواء في جواز الرخصة وزعم جمهور الفقهاء أن السفر ما لم يقدر بمقدار مخصوص لم يحصل فيه الرخصة.
احتج أهل الظاهر بالآية فقالوا: إن قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ في الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة} جملة مركبة من شرط، وجزاء الشرط هو الضرب في الأرض، والجزاء هو جواز القصر، وإذا حصل الشرط وجب أن يترتب عليه الجزاء سواء كان الشرط الذي هو السفر طويلًا أو قصيرًا، أقصى ما في الباب أن يقال: فهذا يقتضي حصول الرخصة عند انتقال الإنسان من محلة إلى محلة، ومن دار إلى دار، إلا أنّا نقول:
الجواب عنه من وجهين: الأول: أن الانتقال من محلة إلى محلة إن لم يسم بأنه ضرب في الأرض، فقد زال الإشكال، وإن سمي بذلك فنقول: أجمع المسلمون على أنه غير معتبر، فهذا تخصيص تطرق إلى هذا النص بدلالة الإجماع، والعام بعد التخصيص حجة، فوجب أن يبقى النص معتبرًا في السفر، سواء كان قليلًا أو كثيرًا.
والثاني: أن قوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ في الأرض} يدل على أنه تعالى جعل الضرب في الأرض شرطًا لحصول هذه الرخصة، فلو كان الضرب في الأرض اسمًا لمطلق الانتقال لكان ذلك حاصلًا دائمًا، لأن الإنسان لا ينفك طول عمره من الانتقال من الدار إلى المسجد، ومن المسجد إلى السوق، وإذا كان حاصلًا دائمًا امتنع جعله شرطًا لثبوت هذا الحكم، فلما جعل الله الضرب في الأرض شرطًا لثبوت هذا الحكم علمنا أنه مغاير لمطلق الانتقال وذلك هو الذي يسمى سفرًا ومعلوم أن اسم السفر واقع على القريب وعلى البعيد، فعلمنا دلالة الآية على حصول الرخصة في مطلق السفر، أما الفقهاء فقالوا: أجمع السلف على أن أقل السفر مقدر، قالوا: والذي يدل عليه أنه حصل في المسألة روايات:
فالرواية الأولي: ما روي عن عمر أنه قال: يقصر في يوم تام، وبه قال الزهري والأوزاعي.
الثانية: قال ابن عباس: إذا زاد على يوم وليلة قصر.
والثالثة: قال أنس بن مالك: المعتبر خمس فراسخ.
الرابعة: قال الحسن: مسيرة ليلتين.
الخامسة: قال الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير: من الكوفة إلى المداين، وهي مسيرة ثلاثة أيام، وهو قول أبي حنيفة.
وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه إذا سافر إلى موضع يكون مسيرة يومين وأكثر اليوم الثالث جاز القصر، وهكذا رواه ابن سماعة عن أبي يوسف ومحمد.
السادسة: قال مالك والشافعي: أربعة برد كل بريد أربعة فراسخ، كل فرسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قدر أميال البادية كل ميل اثنا عشر ألف قدم، وهي أربعة آلاف خطوة، فإن كل ثلاثة أقدام خطوة قال الفقهاء: فاختلاف الناس في هذه الأقوال يدل على انعقاد الإجماع على أن الحكم غير مربوط بمطلق السفر، قال أهل الظاهر: اضطراب الفقهاء في هذه الأقاويل، يدل على أنهم لم يجدوا في المسألة دليلًا قويًا في تقدير المدة، إذ لو حصل في المسألة دليل ظاهر الدلالة لما حصل هذا الاضطراب، وأما سكوت سائر الصحابة عن حكم هذه المسألة فلعله إنما كان لأنهم اعتقدوا أن هذه الآية دالة على ارتباط الحكم بمطلق السفر، فكان هذا الحكم ثابتًا في مطلق السفر بحكم هذه الآية، وإذا كان الحكم مذكورًا في نص القرآن لم يكن بهم حاجة إلى الاجتهاد والاستنباط، فلهذا سكتوا عن هذه المسألة.
وأعلم أن أصحاب أبي حنيفة عولوا في تقدير المدة بثلاثة أيام على قوله عليه الصلاة والسلام «يمسح المسافر ثلاثة أيام»، وهذا يقتضي أنه إذا لم يحصل المسح ثلاثة أيام أن لا يكون مسافرًا، وإذا لم يكن مسافرًا لم يحصل الرخص المشروعة في السفر، وأما أصحاب الشافعي رضي الله عنه فإنهم عولوا على ما روى مجاهد وعطاء بن أبي رباح عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد، من مكة إلى عسفان»، قال أهل الظاهر: الكلام عليه من وجوه: الأول: أنه بناء على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، وهو عندنا غير جائز لوجهين: الأول: إن القرآن وخبر الواحد مشتركان في دلالة لفظ كل واحد منهما على الحكم، والقرآن مقطوع المتن، والخبر مظنون المتن، فكان القرآن أقوى دلالة من الخبر، فترجيح الضعيف على القوي لا يجوز.
والثاني: أنه روي في الخبر أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إذا روي حديث عني فاعرضوه على كتاب الله تعالى فإن وافقه فاقبلوه وإن خالفه فردوه» دلّ هذا الخبر على أن كل خبر ورد على مخالفة كتاب الله تعالى فهو مردود، فهذا الخبر لما ورد على مخالفة عموم الكتاب وجب أن يكون مردودًا.
الوجه الثاني: في دفع هذه الأخبار، وهو أنها أخبار آحاد وردت في واقعة تعم الحاجة إلى معرفة حكمها فوجب كونها مردودة، إنما قلنا: إن الحاجة إليها عامة لأن أكثر الصحابة كانوا في أكثر الأوقات في السفر وفي الغزو، فلما كانت رخص السفر مخصوصة بسفر مقدر، كانت الحاجة إلى مقدار السفر المفيد للرخص حاجة عامة في حق المكلفين، ولو كان الأمر كذلك لعرفوها ولنقلوها نقلًا متواترًا، لاسيما وهو على خلاف ظاهر القرآن، فلما لم يكن الأمر كذلك علمنا أن هذه أخبار ضعيفة مردودة، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يجوز ترك ظاهر القرآن بسببها.
الثالث: أن دلائل الشافعية ودلائل الحنفية صارت متقابلة متدافعة، وإذا تعارضت تساقطت، فوجب الرجوع إلى ظاهر القرآن، هذا تمام الكلام في هذا الموضع.
والذي عندي في هذا الباب أن يقال: إن كلمة (إذا) وكلمة (إن) لا يفيدان إلا كون الشرط مستعقبًا لذلك الجزاء في جميع الأوقات فهذا غير لازم، بدليل أنه إذا قال لامرأته: إن دخلت الدار، أو إذا دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت مرة وقع الطلاق، وإذا دخلت الدار ثانيًا لا يقع وهذا يدل على أن كلمة (إذا) وكلمة (إن) لا يفيدان العموم ألبتة، وإذا ثبت هذا سقط استدلال أهل الظاهر بالآية، فإن الآية لا تفيد إلا أن الضرب في الأرض يستعقب مرة واحدة هذه الرخص وعندنا الأمر كذلك فيما إذا كان السفر طويلًا، فأما السفر القصير فإنما يدخل تحت الآية لو قلنا أن كلمة (إذا) للعموم، ولما ثبت أنه ليس الأمر كذلك فقط سقط هذا الاستدلال، وإذا ثبت هذا ظهر أن الدلائل التي تمسك بها المجتهدون بمقدار معين ليست واقعة على خلاف ظاهر القرآن فكانت مقبولة صحيحة، والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

قال عليه الرحمة:
واختلف العلماء في حدّ المسافة التي تقصر فيها الصلاة؛ فقال داود: تقصر في كل سفر طويل أو قصير، ولو كان ثلاثة أميال من حيث تؤتى الجمعة؛ متمسكًا بما رواه مسلم عن يحيى بن يزيد الهُنَائي قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرةَ ثلاثةِ أميال أو ثلاثةِ فراسخ شُعْبَةُ الشاكُّ صلّى ركعتين.
وهذا لا حجة فيه؛ لأنه مشكوك فيه، وعلى تقدير أحدهما فلعلّه حدّ المسافة التي بدأ منها القصر، وكان سفرًا طويلًا زائدًا على ذلك، والله أعلم.
قال ابن العربي: وقد تلاعب قوم بالدِّين فقالوا: إن من خرج من البلد إلى ظاهره قصر وأكل، وقائل هذا أعجميٌّ لا يعرف السفر عند العرب أو مستخفٌّ بالدين، ولولا أن العلماء ذكروه لما رضيت أن ألمحه بمُؤخّر عيني، ولا أُفكر فيه بفضول قلبي.
ولم يذكر حدّ السفر الذي يقع به القصر لا في القرآن ولا في السنة، وإنما كان كذلك لأنها كانت لفظة عربية مستَقِرٌّ علمُها عند العرب الذين خاطبهم الله تعالى بالقرآن؛ فنحن نعلم قطعًا أن من برز عن الدور لبعض الأُمور أنه لا يكون مسافرًا لغة ولا شرعًا، وإن مشى مسافرًا ثلاثة أيام فإنه مسافر قطعًا.
كما أنا نحكم على أن من مشى يومًا وليلة كان مسافرًا؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا يحِلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرةَ يوم إلا مع ذى مَحْرَم منها» وهذا هو الصحيح؛ لأنه وسط بين الحالين وعليه عوّل مالك، ولكنه لم يجد هذا الحديث متّفَقًا عليه، ورُوي مرة: «يومًا وليلة» ومرة «ثلاثة أيام» فجاء إلى عبد الله بن عمر فعّول على فعله، فإنه كان يقصر الصلاة إلى رِئْم، وهي أربعة بُرُد؛ لأن ابن عمر كان كثير الاقتداء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم.
قال غيره: وكافة العلماء على أن القصر إنما شُرع تخفيفًا، وإنما يكون في السفر الطويل الذي تلحق به المشقة غالبًا، فراعى مالك والشافعيّ وأصحابُهما والليث والأُوزاعِيّ وفقهاء أصحاب الحديث أحمد وإسحاق وغيرهما يومًا تامًا.